السياسة - حسين أبو الحسن/
لم يكن أحد يتخيل ان بعد 5 سنوات فقط من اصداره... سيطيح اليورو عملة أوروبا الموحدة بعرش الدولار!
ولم يكن أحد يتخيل ايضا ان تظهر علامات واضحة على ان المنطقة العربية ستكون ساحة الصراع المشتعل بين اليورو والدولار بالنظر الى ارتباطاتها العضوية المتعددة في المجالات مع طرفي النزاع الاميركيين والاوروبيين, وهو ما يشكل خطرا داهما يحتاج الى وعي بتفاعلاته ومتقدماته ونتائجه.
والحقيقة ان تهاوي القيمة الدولارية يفسح المجال ولو بعد حين لعام جديد متعدد القوى والعملات... بعد لكمة اليورو القاسية للدولار.
وعلى الرغم من أن الوزير الفرنسي هوبير فيدرين أكد بعد ذلك أن اليورو ينبغي أن يكون برهانا على القوة الفيدرالية لأوروبا وأداة التوازن في اللعبة الدولية التي يسيطر عليها الدولار , وزاد فيدرين قائلا: إن الاتحاد الأوروبي هو الفكرة المناوئة للنفوذ الأميركي - فإن أحدا لم يكن يتخيل أن "5 سنوات " فقط كافية لكي تزلزل العملة الأوروبية الموحدة (اليورو) عرش الدولار الأميركي باعتباره عملة التجارة الدولية والاحتياط الرئيسي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية, بعدما تجاوز اليورو حجم الأوراق المتداولة بالدولار في العالم كله, مطلع هذا العام , بكل ما يترتب عليه من تداعيات, أبرزها فقدان الدولار ميزاته الاحتكارية وتراخي قبضة واشنطن على مقاليد الاقتصاد الدولي وبزوغ الاتحاد الأوروبي كمنافس قوي لها, و صعود قوي اقتصادية أخري كالصين واليابان وغيرهما ,وتنامي قدرة الدول النامية على المناورة في عالم يعيد الكبار تشكيله ليكون متعدد الأقطاب اقتصاديا وتكنولوجيا وأيضا سياسيا .
خمس سنوات تكفى..!
والحقيقة إنه لم يكن في مقدور أشد الاقتصاديين الأميركيين تشاؤما تخيل أن خمس سنوات فقط كافية لكي يطيح "اليورو" ب "الدولار" من فوق عرش النظام النقدي العالمي الذي تربع عليه على مدى أكثر من نصف قرن من الزمان, باعتباره عملة الاحتياط الرئيسية في النظام النقدي الدولي, مما جعل الولايات المتحدة الأميركية القوة المركزية المتحكمة في مجريات التيارات السائدة اقتصاديا, ومن ثم سياسيا وعسكريا وتكنولوجيا , فجميع دول العالم أصبحت تتخذ من الدولار مخزنا للقيمة ووسيلة أساسية في حركة المعاملات التجارية المتعددة, وقد أتاح هذا الوضع ميزة تفضيلية تفتقد إليها بقية الدول, بل إن الأميركيين كان بوسعهم أن يحصلوا على معظم السلع و الخدمات المختلفة في مقابل تصدير عملاتهم "الورقية" . ليس هذا فقط إنما يدفع الاقتصاد العالمي "فاتورة " اعتلال أو تعافي الاقتصاد الأميركي (!) , عندما يلجأ بنك الاحتياط الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي ) إلى تخفيض أو رفع سعر الفائدة على الدولار, وفقا لحالة الاقتصاد الأميركي, الأمر الذي تترتب عليه آثار تتعدي حدود الساحة الأميركية إلى الفضاء الاقتصادي الدولي .
والأصل في سعر صرف أي عملة هو أن يخدم الأهداف الاقتصادية للدولة , مثل تحقيق معدل تبادل دولي عادل, وتنمية الصادرات وتحقيق التوازن في الموازين الخارجية وبالذات الميزان التجاري وجذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة والسائحين وتحقيق إيرادات سياحية جديدة.ذلك أن سعر الصرف يمس مجمل هيكل الأسعار ومعدلات التضخم التي يتوقف على استقرارها متانة بنية الاقتصاد وقدرته على إنجاز معدلات النمو المرتفعة التي تحتاجها لإيجاد فرص العمل الضرورية للاستقرار الاجتماعي, واستقرار سعر العملة يؤثر فيما هو أكثر من قيمتها تجاه العملات الأخرى , وتتشعب آثار عدم الاستقرار لتشمل الأداء الاقتصادي على اتساعه, كما أن سعر الصرف يمس قرار المستثمر المحلي والخارجي على السواء.
الصراع الكبير
وإذا كان من الصواب القول إنه لا يوجد سعر صرف مثالي لأي عملة يمكن تثبيته على الدوام ,فإنه من الصواب أيضا القول إن الصراع المستعر بين اليورو والدولار هو معركة حقيقية بكل ما تعنيه الكلمة من معان ,بعدما انتقل العراك بينهما من ردهات البورصات والصفقات التجارية إلى ميادين السياسة الهادرة, الجديد اليوم أننا نشهد بداية أفول الأحادية النقدية مع بدايات القرن الحادي والعشرين , واهتزاز مكانة الدولار في مواجهة اليورو , وبدء تشكل ثنائية "نقدية " جديدة ,فمنذ طرحت العملة الأوروبية الموحدة فى1/1/2002 وهي تكسب كل يوم أرضا جديدة على حساب الدولار الذي اخذ يتراجع ,منذ ذلك الحين ,وبلغ أدنى مستوى له في مايو2003 بعد فترة ممتدة (1995-2001) من الاتجاه التصاعدى, ثم واصل الدولار أداءه المتذبذب أمام اليورو - وبقية العملات الرئيسية - إلى أن دخل في منحني هبوط حاد بداية العام الحالي , ووفقا للإحصاءات الأخيرة فقد تجاوزت أوراق النقد باليورو حجم أوراق النقد بالدولار على نطاق العالم في 1/10/2006 على الرغم من قصر العمر النسبي لليورو , وكانت إحصاءات صندوق النقد الدولي لعام 2004 قد بينت أن نحو 50 في المئة من تدفقات التجارة الخارجية مازالت مقومة بالدولار, في مقابل30 في المئة بالعملات الأوروبية ,وأن نحو 37 في المئة من إجمالي الدين العالمي مقوم بالدولار في مقابل 35 في المئة مقوم باليورو .
نسبة النمو المتوقع".
مخاوف من اضعاف الدولار
العجز المزدوج
ويحذر الخبراء الاقتصاديون من أن الدولار سيستمر في الهبوط نتيجة "للعجز المزدوج" في الاقتصاد الأميركي, متمثلا في عجز كبير في الميزانية الأميركية وفي المعاملات التجارية وأرجعوا هذا العجز إلى حزمة من العوامل المتضافرة داخليا وخارجيا لعبت الدور الرئيسي في إحداث هذا الاهتزاز الكبير في مركز الدولار _دون أن يشفع للدولار تصريحات وزير الخزانة الأميركي هنري بولسون التزام بلاده بدولار قوي ,لأن ذلك في صالح اقتصادها ,وأن سياسة الدولار الضعيف ربما كانت أميركية المنشأ بهدف تخفيف الضغوط المتفاقمة على الاقتصاد الأميركي, وترحيل مشكلاته إلى المنافسين الآخرين _فعلي الصعيد الداخلي تزايدت , في السنوات الماضية,حلقات مسلسل الفضائح والانهيارات التي طالت وقائعها عددا من الشركات الأميركية العملاقة ودفعتها إلى حافة الانهيار ,مثل شركات:إنرون, وورلدكوم , وزيروكس,وأي.بي. إم وغيرها مما أدى إلى خسائر بالبلايين(37بليون دولار), وما تبعه من انهيار سوق الأسهم والسندات بخسائر تجاوزت 7تريليونات دولار, مما خفض الثقة بالاقتصاد الأميركي وبعملته, كما تزايد العجز في الميزان التجاري الأميركي إلى نحو 800 بليون دولار حاليا ,بعد أن كان يدور حول رقم 500 بليون, وارتفع سقف المديونيات الأميركية, في ظل قيادة جورج بوش الابن (الجمهورية) .وكانت أحداث 11سبتمبر2001 عاملا أساسيا -بكل توابعها المعروفة- في الحد من قدرة الاقتصاد على جذب الاستثمارات الأجنبية عموما والعربية النفطية خصوصا التي كانت واشنطن وجهة تقليدية لها ,بعدما لقيت مناخا أميركيا مقلقا_ صفقة موانئ دبي مثلا- وتراجع التجارة الأميركية مع العالم, بالتزامن مع ركود وتباطؤ وتراجع في حركة التجارة الدولية نفسها التي يجري كثير من معاملاتها بالدولار.
القشة التي قصمت ظهر البعير
أما القشة التي قصمت ظهر الدولار فهي تأثيرات حرب أميركا في العراق والثمن الباهظ الذي تدفعه واشنطن اليوم هناك, والذي أنهك اقتصادها المثخن بالأدواء حاليا ,ومن المصادفات المثيرة أن " العراق "هي صاحبة أول ضربة معول في صرح الدولار , وذلك عندما تحولت من الدولار إلى اليورو وجعلته العملة الأساسية في تسعير النفط و أجراء التسويات المالية الخاصة به وبقية معاملاتها الخارجية, في أواخر أيام نظام صدام حسين , ثم تبعتها "إيران " التي قامت الآن بتحويل معظم احتياطياتها المالية إلى اليورو ومتخلية عن الدولار , بعد تفاقم مشكلاتها السياسية مع واشنطن, ثم أخذت العجلة تسير على حساب العملة الأميركية التي بدأت تترنح تحت وطأة ضربات اليورو المتلاحقة, حيث سارت دول أوروبية وآسيوية في الركب, فحولت جزءا من الاحتياطات النقدية لديها إلى اليورو ثم تبعتها في ذلك دول عربية وأفريقية ,خصوصا المنتجة للنفط مثل السعودية والإمارات والكويت وقطر ثم مصر وغيرها. وقد وجهت فنزويلا صفعة قوية للدولار ,عندما استبعدته تماما في صفقاتها التجارية مع بقية دول أميركا اللاتينية وفي ميدان تجارتها النفطية بالذات ,علما بأنها من أكبر منتجي ومصدري النفط إلى واشنطن ,مما أوجد ضغوطا بالغة على الدولار الأميركي باستبعاده من ساحة التعامل كأداة للتسوية .
الشركات والأفراد .. بعد الدول
وربما كانت أهم النتائج المترتبة على هذا الوضع الجديد هي فقدان الولايات المتحدة الأميركية وعملتها الميزة الكبري والتفضيلية التي نعمت بها -على مدي أكثر من نصف قرن - بوصفها عملة الارتكاز الرئيسية في العالم ومحور التعاملات التجارية والنقدية , بما ينهي هيمنتها الطويلة ويفتح الطريق أمام إمكان نشوء تعددية اقتصادية تنزع مقاليد الاقتصاد الدولي من الأيدي الأميركية, ويسمح بصعود قوى أخرى كالاتحاد الأوروبي ومن بعده اليابان والصين والهند والنمور الآسيوية والبرازيل .
ولعل أهم النتائج التي تمخضت عن ذلك, أن النظام النقدي الجديد سيتيح قدرا أكبر من المرونة والمناورة وحرية الحركة أمام البلدان النامية في عقد صفقاتها التجارية ومقاومة الضغوط الغربية,خصوصا الأميركية, وتنويع سلة عملاتها واحتياطاتها النقدية, ومن ثم الإفلات من تلك الضغوط أو تحييدها أو تقليل آثارها باللجوء لليورو بدلا من الدولار, أو أي عملة دولية أخرى, وعليه تزيد أمام هذه الدول الفقيرة مساحة الحركة سياسيا وستراتيجيا, وإن كانت هذه الدول بحاجة ماسة لتحسين سجلها وآدائها الاقتصادي الضحل حتى لا تدفع هي الثمن الفعلي لصراع العملاقة, من خلال تصدير أزمات الأغنياء إليها, وتكون هي في النهاية الضحية والخاسر الوحيد.
Bookmarks